مما لاشك فيه أن للتليفزيون ـ وغيره من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ـ آثاراً خطيرة على اقتصاد الفرد والجماعة، إذ هي أصلاً سلعة ليست رخيصة، وابتياعها يعطي دافعاً قوياً للإعلام الاستهلاكي والنظام الاستهلاكي. ومن هذه الآثار ما يلي:
أولاً: وسائل الإعلام هي الخطوة الأولى نحو الاستهلاك الإسرافي:
تعتبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي محرضاً قوياً على الاستهلاك؛ بما تمتلكه من الثقة لدى معظم المشاهدين، وبما تبثه من البرامج المعدّة خصيصاً لتوجيه الجمهور ودفعه إلى الاستهلاك.
ولعل الأسر التي تقتني مثل هذه الوسائل تشعر منذ أن تقوم بدفع ثمنها بانتقالها إلى مرحلة جديدة في نمط جديد للحياة اليومية، وما دامت اللحظات الأولى لامتلاك وسيلة الإعلام تقترن بدفع مبلغ من المال ليس باليسير بالنسبة لمعظم الأسر على امتداد وطننا الإسلامي، فإن هذا يعني تدريب هذه الأسر على اقتحام مجال الإسراف الذي تبدو أهم ملامحه في تلك الفوضى التي لا تعرف توازناً بين الحق والواجب، والأهم والمهم، والضروري والكمالي. وقد قيل إن اقتناء التليفزيون والفيديو أو أحدهما يعدّ إشارة واضحة لتخطي الأسرة حدود الاقتصاد في المعيشة، إلى الانغماس في حمى الاستهلاك التي يعمل منتجو السلع على تعميمها وإشاعتها.
ثانيا: الإعلان التليفزيوني وحمّى الاستهلاك:
الإعلان التليفزيوني يثير الشهية، ويحث على الفضول، ويدعو إلى المغامرة أحياناً، ويفتح أبواباً جديدة في الاستهلاك، ويساعد على استنباط أنواع من السلع لم تكن من قبل معروفة، وليست هناك حاجة إليها، ولذلك يعمد المنتجون إلى إيهام المشاهدين بالحاجة الملحة لهذه السلعة أو تلك..
إن مهمة الإعلان التليفزيوني الأساسيةـ كما يقول جيري ماندرـ ((تكمن في جعل الناس يستمرون في الشراء الدائم من خلال العمل الدائم للحصول على المال اللازم للشراء، ولأن التليفزيون هو الجهاز الذي تم اختراعه لاختراق حاجز الجلد من خلال تدخله المباشر في إعادة تشكيل أحاسيس الإنسان وإيجاد أحاسيس أكثر ملاءمة للإفراط في الاستهلاك…)). إذن، وُجد الإعلان فقط لإمداد الناس بما لا يحتاجون.
إن الإعلام الآن بتعدد وسائله من صحافة مطبوعة، وإذاعة، وتلفزة، وقنوات فضائية ومعلومات ووسائل تواصل اجتماعي تتبادلها أجهزة الكمبيوتر والمحمول، تحول إلى سلطة رقابة عامة من جهة، وأداة لتشكيل الرأي العام وصناعته، وقوة سياسية يخشاها الساسة والعامة على حد سواء، من جهة أخرى.
إن في الغرب مفكرين يطلقون الصرخات بين الحين والآخر، منذرين قومهم، ومشيرين إلى مكمن الداء، وإن لم يوفقوا بَعْد في الوصول إلى حلول تناسب فطرة الإنسان ومتطلباته.
ومن هؤلاء (جيري ماندر) المفكر الأمريكي الذي أفزعه ما تحقق لديه ـ نتيجة خمسة عشر عاماً عاشها مدير دعاية وعلاقات عامة ـ من آثار التليفزيون ـ كإحدى وسائل الإعلام ـ المدمرة للإنسان، فألف كتاباً دعا فيه إلى التخلص من التليفزيون أسماه (أربع مناقشات لإلغاء التليفزيون) استطاع من خلاله الإشارة إلى مكامن الخطر في هذا الجهاز العجيب، وكانت آراؤه وليدة تجربة حقيقية لطبيعة عمله في مجال الإعلام، مما أتاح له ملاحظة ما لأجهزة الإعلام من تأثير انحرافي في هذا العالم، يتعذر اجتنابه أو تفاديه.
لقد فاقت جاذبية التليفزيون كل حد، حتى أضحت إدماناً استسلمت له طوائف كثيرة من الناس، ودخل التليفزيون إلى المصنع والمتجر، ورافق المسافرين في مركباتهم، والمتنزهين في نزهاتهم، حتى أصبح الرفيق الدائم الذي لا يُمل. وطاب لكثير من الناس أن يتناولوا طعامهم أمام شاشة التليفزيون، ليساعدهم على ازدراد الطعام والتهام أكبر كمية منه، حتى أطلقوا في أمريكا على طريقة الأكل هذه (غذاء التليفزيون)، والتي تشير إلى أن الناس غدوا يتناولون وجبات طعامهم أثناء مشاهدة التليفزيون؛ إذ يستسلم شعورهم وإحساساتهم للبرامج، فلا يدرون كم أكلوا وشربوا.