أسواق عالميةاقتصادمقالات وبحوث

ترامب و تيك توك وساحة النفوذ العالمي: بين الهيمنة الرقمية والصراع الجيوسياسي

بقلم: بسام فهد ثنيان الغانم

لماذا لم يعد تيك توك مجرد تطبيق؟

في عالم يتغير بسرعة فائقة، لم تعد القوة تُقاس فقط بالأسلحة أو بالجيوش، بل تحوّلت إلى أشكال ناعمة وذكية، تتسلل إلى العقول قبل أن تصل إلى الميادين. ومع هذا التحول، برزت المنصات الرقمية بوصفها سلاحًا جديدًا في معركة النفوذ والتأثير، وفي مقدمة هذه المنصات جاء “تيك توك” – التطبيق الصيني الصاعد – الذي استطاع خلال سنوات معدودة أن يتجاوز حدود الترفيه، ليصبح لاعبًا جيوسياسيًا ذا تأثير غير مسبوق.

تأسس تيك توك عام 2016، ومنذ ذلك الحين شهد نموًا مذهلًا، حتى بات اليوم من أكثر التطبيقات تحميلًا واستخدامًا حول العالم، مع جمهور يتجاوز مليار مستخدم نشط شهريًا.

لكن ما يجعل تيك توك مختلفًا عن بقية التطبيقات ليس فقط انتشاره، بل الطريقة التي يعمل بها: خوارزميات معقدة تُحلّل السلوك البشري بدقة، وتُقدم محتوى مُخصصًا للمستخدم بدرجة تصل إلى التأثير في قناعاته، وسلوكه، بل وحتى قراراته السياسية.

وهنا تبدأ القصة الحقيقية، لم يعد الأمر يتعلق بتطبيق فيديوهات قصيرة، بل بمنصة تمسك بمفاتيح “الوعي الجمعي” لدى مئات الملايين. تيك توك بات يُصنّف اليوم ضمن أدوات “النفوذ الناعم”، و”التوجيه الخفي”، و”التأثير غير المباشر”، وهي أدوات يخشاها القادة أكثر مما يخشون الحروب.

في هذا المقال نحاول أن نفكك هذه الظاهرة العالمية، من خلال فهم الصراع الأمريكي–الصيني على تيك توك بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ثم نستعرض تأثير المنصة في العالم العربي، وأوروبا، وأفريقيا، ونحلل كيف تحوّلت تيك توك إلى ما يُشبه دولة رقمية ذات سيادة خفية، قبل أن نقترح حلولًا تقنية وتشريعية وإعلامية للتعامل مع هذا التحدي المعقّد.

نحن لا نتحدث عن تطبيق، بل عن مرحلة جديدة في التاريخ: مرحلة صناعة الرأي العام من داخل الجيب، لا من خلف الميكروفون، وقيادة الأمم من خلال الشاشة، لا من فوق المنصة.

تيك توك وأمريكا – المواجهة بقيادة الرئيس ترامب

منذ تولّيه منصبه في 20 يناير 2025، أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فتح الملف الساخن حول تيك توك، ليس باعتباره قضية ترفيه رقمي، بل كأولوية قصوى تتعلق بـالأمن القومي، والسيادة السيبرانية، والسيطرة على الرأي العام. فتيك توك في نظر ترامب لم يعد تطبيقًا صينيًا عاديًا، بل أصبح أداة سياسية واقتصادية بيد خصم استراتيجي هو الصين، ويُمكن أن يُستخدم لإعادة تشكيل الوعي الأمريكي من الداخل.

أ. بيانات الأمريكيين في قبضة الصين؟

أحد أبرز دوافع واشنطن – وتحديدًا إدارة ترامب – للتحرك ضد تيك توك يتمثل في البيانات. فالتطبيق يجمع كمًّا هائلًا من المعلومات عن المستخدمين: ما يشاهدونه، ومدة مشاهدتهم، وردود فعلهم، وما يثير اهتمامهم… وكل هذا يُخزّن في خوادم يُقال إنها تحت إشراف شركة ByteDance الصينية.

وفي عالم أصبح فيه تحليل السلوك الرقمي يُضاهي الأسرار العسكرية، بات من غير المقبول – حسب رأي صانعي القرار في أمريكا – أن تكون هذه الثروة المعلوماتية في متناول حكومة منافسة.

ب. تيك توك وصناعة القرار السياسي لدى الشباب

تشير استطلاعات مراكز الأبحاث الأمريكية، مثل مركز Pew، إلى أن ما يقارب 48% من المستخدمين الأمريكيين بين عمر 18 و29 عامًا يتلقون أخبارهم السياسية من تيك توك. وهذه النسبة ليست مجرد رقم، بل هي مؤشر على أن المنصة تُشكّل مواقف سياسية فعلية، خاصةً في قضايا الساعة مثل الانتخابات، والسياسات الاجتماعية، والهوية.

ترامب – المعروف بنظرته الاستراتيجية للإعلام – يُدرك أن السيطرة على المنصة تعني القدرة على توجيه مزاج الناخبين، والتحكم في اتجاهات الرأي العام قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولهذا كان موقفه حاسمًا: إما أن تُباع تيك توك لشركة أمريكية، أو تُحظر داخل الولايات المتحدة.

ج. صفقة القرن الرقمية: شراء تيك توك مقابل تخفيض الرسوم

في تحرك غير مسبوق، لوّح ترامب مؤخرًا باحتمالية تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على الصين إذا وافقت الأخيرة على بيع تيك توك لشركة أمريكية أو لفريق استثماري مقرّه في الولايات المتحدة. هذه “الصفقة السياسية–الاقتصادية” تُبرز مدى أهمية المنصة في حسابات الأمن القومي الأمريكي، وتجعل من تيك توك ليس مجرد ملف تقني، بل ورقة ضغط استراتيجية في التفاوض مع بكين.

د. من الأمن إلى الحرب الثقافية

ليس القلق الأمريكي متعلقًا فقط بالبيانات، بل أيضًا بـ المحتوى والخوارزميات. فهناك تخوف حقيقي من أن تستغل الصين المنصة للترويج لأجندات معينة، أو لزرع الشكوك حول الديمقراطية الأمريكية، أو لتغذية الانقسامات الداخلية – تمامًا كما فعلت روسيا سابقًا عبر فيسبوك أثناء انتخابات 2016.

الرئيس ترامب يرى في تيك توك منصة ذات تأثير ثقافي خطير، قادرة على إعادة تعريف الهوية الأمريكية لدى جيل كامل. وبهذا المعنى، فإن المعركة لم تعد تجارية فقط، بل دخلت مربع “الحرب الباردة الرقمية” بين الولايات المتحدة والصين.

هـ. موقف الكونغرس والدولة العميقة

رغم بعض الخلافات السياسية، يُجمع عدد كبير من المشرّعين الأمريكيين من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) على ضرورة التحرك ضد تيك توك، سواء عبر الحظر، أو فرض البيع، أو إخضاعه لقوانين سيادة البيانات الأمريكية. كما أن أجهزة الأمن والاستخبارات تؤيد هذا التوجه، وتُحذر من مخاطر الاستخدام الدعائي والخوارزمي للتطبيق.

في ظل إدارة ترامب الحالية لم يعد تيك توك مجرد مصدر قلق، بل تحديًا وجوديًا ضمن معادلة الأمن القومي الأمريكي. وتحركات الرئيس ليست ارتجالية، بل تستند إلى قراءة دقيقة لواقع جديد:

من يملك المنصة، يملك الشباب.

ومن يملك الشباب، يملك الغد.

العالم العربي – المنصة الجديدة لصناعة الرأي والاحتجاج

في العديد من الدول العربية أصبح تيك توك منصة لطرح القضايا السياسية والاجتماعية بعيدًا عن الرقابة، وقد تحوّل إلى أداة حقيقية للتأثير على الوعي الجمعي.

1- الحركات الاحتجاجية

في تونس، السودان، العراق ولبنان استخدم النشطاء تيك توك لبث مقاطع احتجاجية وتوثيق المواجهات مع السلطات، المنصة أصبحت ملاذًا لمَن لا صوت له في الإعلام الرسمي.

2- الشباب العربي وتشكيل الهوية

يعتمد كثير من الشباب في المنطقة على تيك توك كمصدر للمعلومات والتحليل، ما يجعله مشاركًا في إعادة تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية، سواء عبر محتوى تثقيفي أو ساخر.

3- سهولة التضليل

بسبب غياب التحقق تنتشر المعلومات المضللة بسرعة على تيك توك في العالم العربي، مما يجعله أحيانًا وسيلة لزرع الانقسام، أو تسويق خطاب متطرف دون مساءلة.

أوروبا – بين الحرية الرقمية ومخاوف السيادة

في القارة الأوروبية، يثير تيك توك جدلًا كبيرًا بين حماية الحريات الفردية، وصيانة الأمن الرقمي للدول:

1- قلق سيادي من الاختراق

دول مثل فرنسا وألمانيا أعربت عن مخاوف من استخدام تيك توك في التجسس أو التلاعب بالرأي العام. وقد فُرضت غرامات على الشركة الأم بسبب انتهاك قوانين الخصوصية (مثل GDPR).

2- التأثير في الحملات الانتخابية

في عدة دول، لعب تيك توك دورًا في التأثير على نتائج الانتخابات، سواء عبر الترويج لأحزاب هامشية أو نشر معلومات زائفة تستهدف خصومًا سياسيين.

3- نحو تنظيم أوروبي مشترك

هناك دعوات متزايدة داخل البرلمان الأوروبي لإنشاء آلية رقابية مشتركة، قد تشمل حظر المنصة مؤقتًا أو فرض قواعد أكثر صرامة على محتواها وخوارزمياتها.

أفريقيا – التأثير الصاعد في فضاء هشّ

رغم أن أفريقيا ليست لاعبًا رئيسيًا في الجغرافيا السياسية الرقمية، إلا أن تيك توك ينتشر فيها بسرعة، مستفيدًا من ضعف البنية الإعلامية التقليدية، وانتشار الهواتف الذكية.

1- منصة للتمكين والتعبير

في نيجيريا، كينيا، جنوب أفريقيا وغيرها، يستخدم الشباب تيك توك للتعبير عن واقعهم ومشاكلهم الاجتماعية، أحيانًا بطريقة تُحرّك الرأي العام وتُحرج الحكومات.

2- انتشار المحتوى المجهول

نقص الرقابة والمؤسسات الإعلامية الموثوقة يجعل المستخدمين أكثر عرضة للتضليل والدعاية السياسية أو الطائفية.

المنصة كقوة ناعمة جديدة

تيك توك بات يُصنّف اليوم كأداة قوة ناعمة غير تقليدية، تصوغ الثقافة والوعي وتُؤثر على القرار السياسي من دون أن تُطلق رصاصة.

1- غرف الصدى Echo Chambers

الخوارزميات تخلق بيئات مغلقة يرى فيها المستخدم فقط ما يؤكد قناعاته، مما يُنتج الاستقطاب والانحياز ويُقلل الانفتاح على الأفكار المختلفة.

2- تلاعب خفي بالرأي العام

المستخدم يظن أنه يختار بحرية، بينما في الحقيقة يتم توجيهه بذكاء عبر المحتوى الذي تُقرّر الخوارزمية عرضه له.

كيف نواجه تيك توك؟

1- تقنيًا: الشفافية والبدائل

▪️كشف خوارزميات تيك توك أو فرض نشر آلية التوصية بالمحتوى.

▪️دعم منصات بديلة وطنية أو إقليمية تحترم الخصوصية وتضمن التوازن.

2- تشريعيًا: قوانين حماية البيانات والسيادة الرقمية

▪️فرض قوانين تمنع الشركات الأجنبية من تخزين بيانات المستخدمين المحليين خارج الحدود الوطنية.

▪️إنشاء هيئات رقابية مستقلة لمتابعة محتوى المنصات.

3- توعويًا: التربية الإعلامية والكشف المبكر للتضليل

▪️إدخال مهارات “التفكير النقدي الرقمي” في المناهج التعليمية.

▪️إطلاق حملات إعلامية تشرح للمستخدمين كيف تعمل الخوارزميات وكيفية مقاومة التلاعب.

من يملك المنصة.. يملك العقول

تيك توك ليس مجرد تطبيق، بل هو ساحة جديدة لصراع النفوذ العالمي. من الولايات المتحدة إلى إفريقيا، مرورًا بالعالم العربي وأوروبا، تزداد هذه المنصة قوة وتأثيرًا، دون أن تقابلها بنية تشريعية أو إعلامية كافية لضبطها أو فهمها.

في عصر ما بعد الحقيقة يصبح من يملك المنصة هو من يملك الحق في سرد القصة، ومن يسرد القصة.. يملك العالم.

اترك تعليقاً

إغلاق